من الدراسة إلى الوظيفة كيف تجعل سنواتك الجامعية استثماراً حقيقياً لمستقبلك؟

سوق العمل السعودي: الإحصائيات الحديثة وتأهيل الخريجين

 

مقدمة

يشهد سوق العمل في المملكة العربية السعودية تحولات كبيرة ضمن مستهدفات رؤية 2030 التي تسعى إلى تنويع الاقتصاد وتوفير فرص وظيفية للمواطنين. فقد انخفض معدل البطالة العام بين السعوديين إلى أدنى مستوياته التاريخية في الآونة الأخيرة – حيث سجل نحو 8.3% فقط. كما ارتفعت مشاركة المرأة السعودية في القوة العاملة إلى حوالي 33.8% وهو تطور ملحوظ

وعلى الرغم من هذه التحسينات الكلية، لا تزال هناك تحديات تواجه الخريجين الجدد في الاندماج السريع بسوق العمل. يهدف هذا التقرير إلى استعراض أحدث الإحصاءات حول سوق العمل السعودي، وتسليط الضوء على المهارات المطلوبة والتخصصات الأكثر طلبًا وفقًا لرؤية 2030، بالإضافة إلى مناقشة الفجوة بين مخرجات التعليم واحتياجات السوق وسبل تقليلها. كما يقدم توصيات عملية للطلاب الجامعيين لضمان تأهيلهم بصورة أفضل للوظائف المستقبلية.

 

أحدث مؤشرات سوق العمل السعودي للخريجين

تشير البيانات الرسمية إلى تحسن ملحوظ في أوضاع التوظيف بالمملكة، لكنها تكشف أيضًا عن تحديات تخص توظيف الخريجين. وفقًا لتقرير المرصد الوطني للعمل حول توظيف خريجي الجامعات، بلغ معدل توظيف الخريجين السعوديين 41% خلال السنة الأولى بعد التخرج هذا يعني أن قرابة 6 من كل 10 خريجين لم يحصلوا على وظيفة خلال عامهم الأول بعد التخرج. وتختلف فرص التوظيف باختلاف المؤهل؛ فبينما يحصل 90% من حملة الدكتوراه على وظائف بحلول العام التالي للتخرج، ينخفض المعدل بشكل كبير لحملة البكالوريوس إلى حوالي 39% فقط (يشمل من توظفوا قبل التخرج أو خلال السنة الأولى بعده) هذه الأرقام تؤكد صعوبة انتقال الكثير من خريجي البكالوريوس إلى سوق العمل بشكل سريع.

من جهة أخرى، بلغت البطالة بين الخريجين مستويات أعلى من المعدل العام للبطالة. ففي الربع الثاني من عام 2022 مثلًا، كان معدل البطالة لحملة البكالوريوس حوالي 13.9% مقابل انخفاض معدل البطالة الكلي في المملكة إلى نحو 9.7% ويظهر التفاوت جليًا بين الجنسين؛ إذ تصل بطالة الإناث من حملة البكالوريوس إلى 24.7% مقابل 4.9% للذكوركذلك تتباين البطالة بحسب التخصصات بشكل حاد. تخصصات العلوم الطبيعية والرياضيات سجلت أعلى نسبة بطالة (15.2%) تلتها الفنون والعلوم الإنسانية (14.8%) ثم تخصصات التربية والتعليم (14.5%)، في المقابل، كانت بطالة خريجي التخصصات الصحية 5.0% وتخصصات الهندسة والتصنيع والبناء فقط 4.3% وهي أدنى نسبة بطالة بين جميع التخصصات، هذه الفروق تشير إلى وجود فائض من الخريجين في بعض المجالات مقابل طلب أعلى على تخصصات معينة في سوق العمل.

جدير بالذكر أن خريجي الهندسة والبناء يتمتعون بأفضلية في التوظيف السريع. فقد حققت تخصصات الهندسة والتصنيع والإنشاءات أعلى معدل توظيف خلال أول 12 شهرًا بعد التخرج بنسبة 64% من خريجيها، بينما على النقيض، تخصصات الصحة تتطلب مزيدًا من الوقت بسبب اشتراطات التدريب بعد التخرج، فبالرغم من أن إجمالي توظيف خريجي القطاع الصحي يصل إلى 68%، إلا أن 28% فقط منهم توظفوا خلال السنة الأولى، هذه المؤشرات الحديثة تعطي صورة واضحة للتحديات التي تواجهها شريحة الخريجين الجدد، وتبرز الحاجة لردم الفجوة بين مخرجات التعليم ومتطلبات السوق.

 

المهارات الأساسية المطلوبة للخريجين

لمواكبة متطلبات سوق العمل السعودي سريع التطور، يحتاج الخريجون إلى حزمة متكاملة من المهارات تجمع بين المعرفة التخصصية والمهارات الشخصية والتقنية. يمكن تصنيف المهارات المطلوبة بشكل عام إلى ثلاث فئات رئيسية: مهارات العمل (المرتبطة بأخلاقيات العمل وإدارة المهام في بيئة وظيفية)، والمهارات الرقمية، والمهارات الشخصية (الناعمة)

 

  • المهارات الشخصية (Soft Skills): تحظى بوزن كبير لدى أصحاب العمل اليوم. تشمل هذه المهارات قدرة الخريج على التواصل الفعّال والعمل الجماعي وحل المشكلات، إضافة إلى التفكير النقدي والإبداعي والتكيف مع المتغيرات. تشير الدراسات إلى أن مهارات الذكاء الاجتماعي والتفكير النقدي والإبداعي تعتبر من أبرز ما يحتاجه الخريج لحل المشكلات في بيئة العمل
  • المهارات الرقمية والتقنية: تشهد المملكة تحولًا رقميًا في شتى القطاعات، وبالتالي فإن الإلمام بالتقنية لم يعد ميزة إضافية بل مطلبًا جوهريًا. يتوقع من الخريجين الجدد امتلاك كفاءة رقمية تتيح لهم استخدام التكنولوجيا بفاعلية في العمل. يشمل ذلك الإلمام بأساسيات الحاسوب وتطبيقاته، والقدرة على التعامل مع البيانات وتحليلها، وفهم التقنيات الحديثة المرتبطة بتخصصاتهم. التحول الرقمي في قطاعي الحكومة والأعمال يرفع الحاجة لمهارات مثل البرمجة وتحليل البيانات والأمن السيبراني حتى لغير المتخصصين في تقنية المعلومات. إذ باتت معظم الوظائف – من الهندسة إلى التسويق – تتطلب معرفة بالتطبيقات الرقمية ونظم المعلومات. تؤكد دراسات سوق العمل وجود فجوة حالية في مهارات التقنية لدى بعض الخريجين السعوديين، لا سيما في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM)
  • مهارات اللغة والتواصل: تعتبر إجادة اللغة الإنجليزية على وجه الخصوص من المتطلبات الأساسية في العديد من الوظائف، خاصة في القطاع الخاص والشركات العالمية العاملة في السعودية. تمكن مهارة التواصل الفعّال – شفهيًا وكتابيًا – الخريج من التعبير عن أفكاره وعرض معرفته بشكل يُكسب ثقة أصحاب العمل. كما أن مهارات العرض والإلقاء، والقدرة على التفاوض والإقناع، أصبحت مهمة في بيئات العمل التنافسية. وعلى الخريجين أيضًا التحلي بمهارات إدارة الوقت والتنظيم وتحمل المسؤولية، فهذه كلها تندرج ضمن أخلاقيات العمل المطلوبة (Work Ethics) التي تجعل الموظف الجديد موثوقًا ويمكن الاعتماد عليه.

 

باختصار، يبحث أصحاب الأعمال اليوم عن خريج متكامل المهارات: يمتلك أساسًا علميًا صلبًا في تخصصه، وقادرًا في الوقت ذاته على التفكير الناقد والعمل ضمن فريق واستخدام التقنيات الحديثة. لذلك يجب على الطلاب خلال مرحلتهم الدراسية التركيز على صقل هذه المهارات إلى جانب تحصيلهم الأكاديمي، عبر الدورات التدريبية وورش العمل والممارسة العملية كما سنناقش لاحقًا.

 

التخصصات الأكثر طلبًا والمهن المستقبلية وفق رؤية 2030

وضعت رؤية السعودية 2030 تصوّرًا طموحًا لمستقبل الاقتصاد الوطني، يشمل خلق ملايين الوظائف في قطاعات جديدة وتقليص البطالة إلى 7% بحلول عام 2030 (بعد أن كانت 11.6% عند إطلاق الرؤية)، لتحقيق هذه الأهداف، جرى تحديد مجموعة من القطاعات الحيوية التي ستقود الاقتصاد في المرحلة القادمة، وبالتالي يرتفع الطلب على تخصصات معينة مرتبطة بها. فيما يلي أبرز التخصصات والمهن المستقبلية المتوقع ازدياد الطلب عليها في سوق العمل السعودي، استنادًا إلى توجهات الرؤية وبرامجها التنفيذية:

 

  • قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات: يأتي في مقدمة المجالات المطلوبة نظرًا لدور التقنية المحوري في التحول الاقتصادي. تعمل الرؤية على تطوير البنية التحتية الرقمية في المملكة لتعزيز الصناعات المتقدمة وجذب الاستثمارات
  • قطاع الأعمال والقطاع المالي: تسعى المملكة إلى تمكين القطاع الخاص والمنشآت الصغيرة وزيادة مساهمتها في الاقتصاد. يساهم قطاع التجزئة والمنشآت الصغيرة حاليًا بحوالي 10% من الناتج المحلي غير النفطي، وتستهدف الرؤية رفع هذه النسبة
  • قطاع النقل وسلاسل الإمداد واللوجستيات: تتمتع المملكة بموقع جغرافي إستراتيجي يربط القارات، وتسعى الرؤية لاستثماره عبر تحويل السعودية إلى مركز لوجستي عالمي
  • قطاع الطاقة المتجددة: تقود السعودية مبادرات طموحة في مجال الطاقة النظيفة لتنويع مصادر الطاقة بعيدًا عن النفط. ومن أبرزها مشروع نيوم العملاق الذي يتضمن إنشاء أضخم محطات للطاقة الشمسية وطاقة الرياح في العالم
  • قطاع التعدين والصناعات التحويلية: في ظل توجه المملكة للتنوع الصناعي واستغلال ثرواتها المعدنية، يحظى قطاع التعدين بأهمية خاصة. السعودية غنية بالموارد المعدنية (كالذهب والنحاس والفوسفات)، وتعمل حاليًا على جذب استثمارات لتطوير صناعات تعدينية متقدمة. وهذا يتطلب زيادة في خريجي هندسة التعدين وعلوم الأرض (الجيولوجيا) وفيزياء الأرض، ممن لديهم معرفة بعمليات التنقيب والاستخراج وتصنيع المعادن
  • قطاع الرعاية الصحية: مع النمو السكاني وارتفاع نسبة كبار السن، تتوسع الحاجة لخدمات صحية عالية الجودة ضمن مستهدفات جودة الحياة في رؤية 2030
  • قطاع الثقافة والفنون والسياحة: تولي رؤية 2030 اهتمامًا خاصًا بالجوانب الثقافية والترفيهية لتعزيز القوة الناعمة للمملكة وتنويع الاقتصاد عبر السياحة. لقد جرى إطلاق مواسم ترفيهية ومهرجانات ثقافية كبرى، إلى جانب الاستثمار في مواقع التراث والسياحة التاريخية. بناءً على ذلك، ستبرز وظائف المستقبل في تخصصات الإعلام (خصوصًا الإعلام الرقمي)، والعلاقات العامة والإعلان والتسويق في المجالات الثقافية
  • قطاع البيئة والاستدامة: تسعى المملكة في رؤيتها المستقبلية إلى حماية البيئة ومكافحة التصحر وتعزيز الاستدامة عبر إنشاء محميات طبيعية وتشجير واسع للمناطق

 

هذه قائمة بأهم القطاعات والتخصصات التي حددتها خطط التنمية كمحركات لمستقبل سوق العمل السعودي. بطبيعة الحال، امتلاك المؤهلات المطلوبة في هذه المجالات الواعدة يزيد بشكل كبير من فرص توظيف الخريجين. ويُنصح الطلاب باختيار تخصصاتهم الجامعية ودرجاتهم العلمية مع الأخذ بالاعتبار هذه التوجهات طويلة المدى، مع مراعاة ميولهم وقدراتهم الشخصية أيضًا.

 

استراتيجيات للطلاب لتعزيز جاهزيتهم الوظيفية

أمام التنافسية العالية في سوق العمل اليوم، يتعين على الطالب الجامعي اتخاذ خطوات استباقية خلال فترة الدراسة الجامعية لاكتساب الخبرات والمهارات التي تعزز قابليته للتوظيف فور تخرجه. فيما يلي بعض الاستراتيجيات العملية التي يمكن للطلاب اتباعها لتحقيق أقصى استفادة من مرحلتهم الجامعية وضمان جاهزيتهم لسوق العمل السعودي:

 

  • الاندماج المبكر في بيئة العمل: من أنجح الاستراتيجيات أن يبدأ الطالب الاحتكاك بسوق العمل أثناء دراسته بدلًا من الانتظار لحين التخرج
  • استثمار الفرص التدريبية والتطوعية: ينبغي للطالب الاستفادة القصوى من أي برامج تدريب عملي أو تعاوني (Internship/Co-op) توفرها الجامعة أو الشركات خلال فترة الدراسة. التدريب العملي الميداني يكسب الطالب خبرة حقيقية ويعزز مهاراته التطبيقية في بيئة عمل واقعية. العديد من الجهات توفّر فرص التدريب الصيفي للطلاب في مختلف التخصصات، كما أن بعض التخصصات تشمل فصلًا دراسيًا للتدريب التعاوني يصبح فيه الطالب كمتدرب بدوام كامل لدى إحدى الشركات. هذه التجارب لا تثري السيرة الذاتية فحسب، بل كثيرًا ما تقود إلى عروض وظيفية بعد التخرج إذا أثبت الطالب كفاءته. إلى جانب ذلك، المشاركة في الأعمال التطوعية والمبادرات المجتمعية ضمن التخصص يمكن أن تكون بديلًا قيّمًا لاكتساب الخبرة وبناء المهارات (مثل التطوع في حملات بيئية لطلبة علوم البيئة، أو تنظيم فعالية ثقافية لطلبة الإعلام). أي نشاط عملي يقوم به الطالب خلال الدراسة سيساعده على تطوير مهارات التواصل والقيادة والعمل تحت الضغط، وجميعها محط تقدير أصحاب العمل.
  • تنمية المهارات عبر الدورات الإضافية: لا ينبغي أن يقتصر دور الطالب على المنهج الدراسي فقط، بل عليه البحث عن دورات وورش عمل تعزز من قدراته في المجالات المطلوبة. على سبيل المثال، يمكن للطالب تحسين مستواه في اللغة الإنجليزية بالحصول على دورات متقدمة أو شهادات معتمدة (مثل IELTS أو TOEFL). كذلك اكتساب شهادات مهنية تقنية (كشهادة في أساسيات البرمجة، أو دورات في تحليل البيانات، أو شهادة شبكات CCNA لمن هم في تخصص الحاسب) تضيف قيمة كبيرة لمؤهلات الخريج. هناك أيضًا منصات تدريبية وطنية (مثل منصة دروب التابعة لصندوق تنمية الموارد البشرية) وأخرى عالمية على الإنترنت تقدم آلاف الدورات المجانية أو بأسعار رمزية. التعلم الذاتي المستمر إلى جانب الدراسة النظامية بات سمة من سمات الخريج المتميز، لأنه يدل على مبادرته لتطوير نفسه وقدرته على إدارة تعلمه الذاتي.
  • المشاركة في الأنشطة الطلابية والمسابقات: توفر الحياة الجامعية العديد من الأنشطة خارج الصف الدراسي التي تنمّي مهارات الطالب. الانخراط في أندية الطلاب والجمعيات العلمية أو مشاركات اتحاد الطلاب يمنح خبرة في العمل ضمن فريق وتنظيم الفعاليات وقيادة الآخرين. كما أن المسابقات العلمية (مثل مسابقات البرمجة، مسابقات خطط الأعمال، معارض المشاريع) تعتبر فرصة لإبراز المهارات أمام لجان تحكيم وشركات راعية، وكثيرًا ما ينتج عنها فرص احتضان مشاريع أو عروض وظيفية للخريجين المتميزين. هذه الأنشطة تصقل شخصية الطالب المهنية وتعرفه على زملاء وأساتذة خارج إطار المحاضرات التقليدية.
  • الاستفادة من خدمات الإرشاد المهني: غالبية الجامعات اليوم لديها مراكز للتطوير المهني أو وحدة إرشاد وظيفي لمساعدة الطلاب في التخطيط لمسارهم المهني. يُنصح الطالب بالتواصل مع مرشدي الوظائف لحضور ورش عمل كتابة السيرة الذاتية والاستعداد للمقابلات وكيفية البحث عن وظيفة. يمكن أيضًا طلب المشورة في اختيار التخصص الدقيق أو المسار الأنسب داخل التخصص بناءً على ميول الطالب وفرص السوق. الإرشاد المهني المبكر يوجه الطالب نحو مسار وظيفي واعد منذ سنوات الدراسة، ويزوده بمعلومات عن القطاعات والصناعات الأكثر نموًا وكيفية التأهل لها.

 

باتباع هذه الاستراتيجيات المتنوعة، يزيد الطالب من تنافسيته عند التخرج بشكل ملحوظ. فالخبرات العملية المكتسبة، مع المهارات المحسنة والشبكات المهنية التي بناها خلال دراسته، تجعله مرشحًا أقوى أمام أصحاب العمل مقارنة بمن يكتفي بالجوانب الأكاديمية وحدها.

 

دور التدريب العملي والتعاوني في تحسين التوظيف

يُعد التدريب العملي الميداني بجميع أشكاله جسراً حيوياً يربط بين الدراسة الأكاديمية واحتياجات سوق العمل. إذ يوفّر للطالب فرصة تطبيق المعرفة النظرية التي تعلمها في قاعات الجامعة على أرض الواقع، مما يمنحه فهمًا أعمق لتوقعات أصحاب العمل وطبيعة بيئة العمل. تظهر نتائج التوظيف أن الخريجين الذين مرّوا بتجربة تدريبية خلال دراستهم غالبًا ما يتمتعون بأفضلية عند البحث عن وظيفة. فعلى سبيل المثال، الجامعات التي تتبنى نظام التدريب التعاوني المكثف تسجل نسب توظيف أعلى لخريجيها. جامعة الملك فهد للبترول والمعادن (KFUPM) – التي تشترط على طلابها اجتياز فترة تدريب تعاوني طويلة – حققت أعلى معدل توظيف للخريجين خلال سنة واحدة من التخرج بنسبة 78% وفق تقرير المرصد الوطني، وهو معدل يفوق معظم المؤسسات التعليمية الأخرى. هذا يُعزى جزئيًا إلى الشراكات القوية بين الجامعة والشركات الصناعية، حيث يكتسب الطالب خبرة عملية نوعية وشبكة علاقات أثناء التدريب تسهّل دخوله الفوري لسوق العمل.

التدريب التعاوني (Internship/Co-op) يمنح أصحاب العمل أيضًا فرصة لاكتشاف المواهب الشابة مبكرًا. كثير من الشركات في السعودية باتت تعتبر فترة التدريب بمثابة "فترة اختبار" للمتدرب يمكن أن تنتهي بعرض وظيفي دائم للمتدرب المتميز. لذا فإن نسبة غير قليلة من المتدربين يتحولون إلى موظفين رسميين في نفس الجهات التي تدربوا بها. وحتى في حال لم يتم التوظيف لدى جهة التدريب ذاتها، فإن الخبرة المكتسبة وتوصية أصحاب العمل السابقين تكون بمثابة بوابة لبقية الفرص. تشير الإحصاءات إلى أن 10% من الخريجين السعوديين كانوا يعملون بالفعل قبل تخرجهم واستمروا في وظائفهم بعد التخرج، مما يؤكد قيمة الخبرة المبكرة.

علاوة على ذلك، يساعد التدريب الميداني على تطوير أخلاقيات العمل والانضباط المهني لدى الطالب؛ فهو يتعلم احترام المواعيد والمسؤوليات وكيفية التعامل مع الزملاء والرؤساء في بيئة فعلية. هذه أمور لا يمكن للمقررات الدراسية وحدها أن تغرسها. ومن هنا، أصبح هناك توجه على مستوى الدولة والمؤسسات التعليمية لزيادة جرعة التدريب العملي في البرامج الجامعية. وزارة التعليم تبنّت استراتيجية لإنشاء كليات تطبيقية في الجامعات تركز على الجوانب العملية المرتبطة بسوق العمل، كما أن كثيرًا من الكليات اشترطت ساعات تدريب ميداني للتخرج في مختلف التخصصات وليس فقط الهندسية أو الطبية. كل ذلك يصب في تجهيز الخريج بالخبرة المطلوبة التي يتوقعها أرباب العمل، وبالتالي رفع نسب التوظيف وتقليل الفجوة بين حديثي التخرج وأصحاب الخبرة.

 

مؤشرات البطالة بين الخريجين

بالرغم من الجهود المبذولة، تكشف الإحصاءات الرسمية استمرار ارتفاع معدل البطالة بين بعض فئات الخريجين مقارنة بالمعدل العام. فبحسب الهيئة العامة للإحصاء، بلغ معدل البطالة لإجمالي السعوديين (ذكورًا وإناثًا) حوالي 8% في مطلع عام 2023، وهو تحسّن كبير. إلا أن معدل البطالة بين حملة الشهادات الجامعية لا يزال أعلى من ذلك بشكل ملحوظ. كما أسلفنا، فإن 13.9% من حملة البكالوريوس عاطلون عن العمل وفق بيانات 2022. وتشير نفس البيانات إلى تفاوت البطالة باختلاف مستوى الشهادة التعليمية؛ حيث تنخفض البطالة كلما ارتفع مستوى التأهيل. فمثلًا، بطالة حملة الماجستير حوالی 4.6% والدكتوراه 1.9% فقط، في حين ترتفع لحملة الدبلوم المتوسط إلى 6.5% ولحملة الثانوية إلى 8.1%. هذه الأرقام تعني أن الشريحة الأكبر من العاطلين السعوديين هم من خريجي مرحلة البكالوريوس أو ما يعادلها، ربما نظرًا لكثرة أعدادهم مقارنة بحملة الدراسات العليا، وأيضًا بسبب محدودية الخبرة العملية لدى كثير منهم وقت التخرج.

كذلك، هناك اختلافات قطاعية في بطالة الخريجين. فقد أوضحنا سابقًا أن خريجي التخصصات العلمية البحتة (كالعلوم الطبيعية والرياضيات) يعانون من بطالة أعلى من غيرهم، ربما بسبب محدودية الفرص خارج المجال الأكاديمي، أو الحاجة لمؤهلات إضافية كالدراسات العليا. بينما ينجح معظم خريجي الهندسة والعلوم الصحية في العثور على وظائف بسرعة نسبية نظرًا لحاجة السوق لتلك التخصصات. كما أن الإناث الخريجات يواجهن تحديات خاصة؛ فرغم تفوقهن العددي في مخرجات التعليم العالي، فإن مشاركة المرأة في بعض القطاعات لا تزال قيد النمو، مما يفسر ارتفاع بطالة الإناث الجامعيات مقارنة بالذكورهذه المؤشرات تستدعي تكاتف الجهود لمعالجة أسباب بطالة الخريجين، سواء من جانب تأهيلهم وتوجيههم المهني أو من جانب فتح مزيد من الفرص الوظيفية الملائمة لهم. وسيأتي لاحقًا في التوصيات كيف يمكن تقليل هذه الفجوة عبر مواءمة أفضل بين التعليم وسوق العمل.

الفجوة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل وسبل تقليصها

لطالما كانت مسألة عدم التوافق بين ما يتعلمه الطالب في الجامعة وما يحتاجه صاحب العمل محور نقاش في التنمية البشرية. في السعودية، اعترف مسؤولو التعليم والعمل بوجود فجوة يجب ردمها سريعًا لضمان نجاح برامج التوطين وخلق الوظائف. فقد صرّح وزير التعليم السابق حمد آل الشيخ صراحةً بأن "هناك فجوة بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل في المملكة"، مؤكّدًا العمل على معالجتها عبر مواءمة برامج الجامعات مع احتياجات السوق

 

فما مظاهر هذه الفجوة؟ وما الذي يتم عمله لتضييقها؟

مظاهر الفجوة: تتمثل الفجوة في جوانب عدة، منها ميل المؤسسات التعليمية إلى التركيز النظري وعدم تضمين ما يكفي من تدريب عملي ومهارات تطبيقية ضمن المناهج. كما أن تكدس الخريجين في تخصصات معينة مقابل ندرة في تخصصات أخرى يؤدي إلى اختلال التوازن في سوق العمل. على سبيل المثال، لعقود مضت خرجت الجامعات أعدادًا كبيرة في تخصصات نظرية كالتعليم والدراسات الإنسانية ففاق العرضُ الطلبَ الفعلي عليها، بينما عانت قطاعات ناشئة كالتقنية والهندسة النوعية من نقص الكفاءات المحلية وتطلبت استقدام خبرات من الخارج. أضف إلى ذلك ضعف بعض المهارات لدى الخريجين (كاللغة الإنجليزية أو مهارات التواصل والتحليل) كما أسلفنا، مما يجعل تأهيلهم الوظيفي يستغرق وقتًا أطول بعد التخرج. هذه الفجوة لا تضر الخريجين فحسب، بل تؤثر على الاقتصاد عبر إبطاء الإنتاجية ورفع تكاليف التدريب على الشركات.

جهود المواءمة والتطوير: لمعالجة هذه التحديات، تبنت الحكومة السعودية إستراتيجية شاملة لتنمية رأس المال البشري ضمن رؤية 2030، تتمحور حول مواءمة مخرجات التعليم والتدريب مع احتياجات سوق العمل الحالية والمستقبلية. ومن أبرز الخطوات المتخذة في هذا السياق:

 

  • تحديث المناهج الدراسية والتركيز على المهارات: تعمل وزارة التعليم على تطوير المناهج في التعليم العام والجامعي بحيث يتم تضمين مهارات القرن الواحد والعشرين – مثل التفكير الناقد والتعلم الذاتي والابتكار – لضمان تهيئة الطالب لسوق العمل وليس فقط لاجتياز الاختبارات
  • إعادة هيكلة التخصصات الجامعية: شهدت الأعوام الأخيرة توجّهًا نحو ترشيد القبول في التخصصات النظرية والأقل طلبًا والتوسع في التخصصات العلمية والتقنية التي يحتاجها السوق. حيث أوضح وزير التعليم أن الاستراتيجية الجديدة ستتضمن تقنين التوسع في التخصصات الأدبية والنظرية مقابل زيادة البرامج في المجالات العلمية والطبية والهندسية
  • تعزيز الشراكة بين التعليم والقطاع الخاص: أدركت الجهات الرسمية أن التنسيق بين الجامعات وأرباب العمل هو حجر الزاوية لسد الفجوة. لذا نرى اليوم عددًا متزايدًا من مجالس الاستشارات الصناعية في الجامعات، تضم ممثلين من شركات كبرى وجهات حكومية، هدفها إسداء المشورة للكليات حول المهارات المطلوبة وتحديث الخطط الدراسية وفقًا للتطورات العملية. على سبيل المثال، كثير من كليات الهندسة والصيدلة في المملكة أصبحت تُشرك خبراء من الصناعة في لجان تطوير المناهج واعتماد برامج التدريب لطلابها. أيضًا اتفاقيات التدريب التعاوني بين الجامعات والشركات أصبحت شائعة، تضمن توفر مقاعد تدريب منتظمة لطلاب السنوات الأخيرة في مواقع عمل حقيقية. هذه الشراكات تتيح تغذية راجعة مستمرة من سوق العمل إلى المؤسسات التعليمية حول جودة الخريجين ومكامن التحسين.
  • الإرشاد المهني المبكر والتوعية: تعمل وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية وصندوق تنمية الموارد البشرية (هدف) بالتعاون مع وزارة التعليم على توفير خدمات التوجيه المهني للطلاب ابتداءً من المرحلة الثانوية وطوال المرحلة الجامعية
  • التدريب وإعادة التأهيل بعد التخرج: لمن تخرّجوا بالفعل ويواجهون صعوبة في التوظيف، هناك برامج حكومية وخاصة لرفع قابليتهم للتوظيف عبر اكتساب مهارات جديدة. على سبيل المثال، يشرف صندوق "هدف" على برامج لتدريب الخريجين الجدد في الجهات الحكومية والقطاع غير الربحي لاكتساب الخبرة (برنامج تمهير)، كما تدعم مؤسسة مسك وغيرها معسكرات تدريبية في مجالات التقنية والأعمال للشباب الباحثين عن عمل. إتاحة هذه الفرص للتعلّم المستمر وإعادة التأهيل يساعد في ردم فجوة المهارات لدى الخريجين الحاليين ومواكبة متطلبات الشركات بشكل أفضل
  • تشجيع ثقافة التعليم التطبيقي والمهني: بالإضافة إلى إصلاح التعليم العالي، يتم العمل على تعزيز مسارات التعليم والتدريب التقني والمهني كخيار موازٍ للتعليم الجامعي. فمتى ما ازدادت جودة وجاذبية برامج الكليات التقنية والمعاهد المهنية للشباب، سيتم تخريج كوادر مؤهلة تمتلك مهارات تقنية مباشرة يحتاجها السوق (كالفنيين والتقنيين المهرة) مما يخفف الضغط على الجامعات ويقلل الفجوة. وقد شهدت السنوات الأخيرة تطويرًا في برامج المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني في تخصصات حديثة كصيانة أنظمة الطاقة الشمسية والذكاء الاصطناعي وغيرها لتلبية الطلب الصناعي.

 

مجمل هذه الجهود تمثل مقاربة شاملة لعلاج الخلل التاريخي بين مخرجات المنظومة التعليمية واحتياجات الاقتصاد الفعلية. ومع استمرار متابعة تنفيذ مبادرات برنامج تنمية القدرات البشرية أحد برامج تحقيق الرؤية، يُنتظر أن تؤتي ثمارها على هيئة جيل جديد من الخريجين أكثر جاهزية ومرونة وقادر على سد احتياجات سوق العمل المحلي بكفاءة، بل والمنافسة عالميًا.

خاتمة وتوصيات

في ظل المعطيات السابقة، يتضح أن سوق العمل السعودي يزخر بفرص واعدة في قطاعات مختلفة، لكنه في الوقت ذاته يتطلب من الخريجين امتلاك مهارات عالية وتخصصات ملائمة للحصول على تلك الفرص. ولتقريب الفجوة بين التعليم والعمل، المسؤولية مشتركة بين الجهات التعليمية والحكومية من جهة، والطلاب أنفسهم من جهة أخرى. ختامًا، يمكن تلخيص أهم التوصيات المستخلصة كما يلي:

 

  • للطلاب والخريجين: يجب أن يكون تطوير الذات مستمرًا؛ فالتحصيل الجامعي وحده لم يعد كافيًا. على كل طالب العمل على بناء مزيج من المهارات التقنية والناعمة خلال دراسته، عبر التدريب والشهادات المهنية والنشاطات اللامنهجية. كما ينبغي اختيار التخصص بحكمة بناءً على معطيات السوق المستقبلية والشغف الشخصي معًا. ولا غنى عن استثمار فترات الإجازة والتدريب لاكتساب خبرة عملية حقيقية تزيد من جاذبية الخريج أمام أصحاب العمل.
  • للمؤسسات التعليمية: مواصلة تحديث وتكييف المناهج والبرامج الأكاديمية لتلائم احتياجات القرن 21، مع إشراك أصحاب العمل في التصميم والتنفيذ. التوسع في إلزامية التدريب التعاوني لجميع التخصصات قدر الإمكان، وتقديم مقررات مهارية عامة (كاللغة الإنجليزية المتقدمة، ومهارات العرض، والعمل الجماعي) ضمن خطة الدراسة لكل طالب. كذلك تحسين خدمات الإرشاد الوظيفي بالجامعات لتوجيه الطلاب نحو المسارات المطلوبة وتزويدهم بالمعلومات والمهارات اللازمة للتوظيف.
  • للحكومة والقطاع الخاص: الاستمرار في دعم المبادرات التي تربط الخريجين بالوظائف (كمعارض التوظيف وبرامج التدريب المنتهي بالتوظيف). تعزيز الشراكات بين الشركات والجامعات عبر رعاية الأبحاث التطبيقية ومشاريع التخرج وتقديم منح تدريبية، بما يضمن تدفقًا مستمرًا للمعرفة بين الجانبين. وعلى الجهات الحكومية متابعة مواءمة مخرجات التعليم سنويًا مع خطط سوق العمل وضبط سياسات القبول والابتعاث وفقًا لذلك، لضمان عدم تراكم فائض جديد من خريجي تخصصات محدودة الفرص.

 

بهذه الجهود المتكاملة، يمكن إحداث نقلة نوعية في جاهزية الخريجين السعوديين وانخراطهم السريع في سوق العمل. ومع استمرار زخم مشاريع رؤية 2030، ستزداد الفرص التنموية، ويتعين علينا تجهيز رأس المال البشري الوطني لاستثمارها على الوجه الأمثل. الجمع بين التعليم الجيد والتدريب العملي والمهارات المرنة هو الوصفة المثلى لشق طريق ناجح في سوق العمل السعودي المزدهر.

المراجع: تم اعتماد معلومات وإحصاءات التقرير على مصادر رسمية موثوقة وتقارير متخصصة، مثل بيانات الهيئة العامة للإحصاء ووزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية والمرصد الوطني للعمل، بالإضافة إلى دراسات صادرة عن مؤسسات معنية بتنمية الموارد البشرية (كمؤسسة مسك) وتغطيات صحفية من مواقع اقتصادية محلية (أرقام، الوطن، اليوم وغيرها).